ندوة قرائية و رصد لمحطات من الفعل التاريخي للجزر المتوسطية من خلال كتاب د.خالد سرت
بقلم سمير السباعي
يعتبر الخوض في تاريخ المجالات البحرية مطلبا رئيسيا من أجل رصد حقيقي لتاريخية الفعل الكوني الذي ساهمت فيه عدد من هذه الفضاءات خاصة على مستوى البحر الأبيض المتوسط، حيث ساهمت الجزر المتوسطية في تشكيل جزء مهم من تاريخ هذا المجال الذي كان لضفتيه الشمالية و الجنوبية مساحات تأثير معينة في رسم ذلك. ضمن هذا السياق و في إطار التوثيق لأهم اللقاءات الفكرية التي ناقشت جوانب من التاريخ البحري ببلادنا نهاية السنة المنصرمة، فقد سبق لمختبر المغرب و العالم الخارجي التابع لكلية الآداب و العلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء أن نظم يومه الثلاثاء 28 نونبر 2023 بأحد فضاءات نفس المؤسسة السالفة الذكر، لقاء فكريا لمناقشة و قراءة المنجز الفكري الأخير للباحث الدكتور خالد سرتي و الموسوم ب” الجزر المتوسطية و بناء المجال البحري الإسلامي في العصر الوسيط”، حيث عمل حينها نخبة من الدكاترة و الباحثين على مقاربة هذا الإصدار الجديد للمؤلف من مداخل قرائية متعددة. و قد كان هذا الموعد الثقافي الذي ترأس أشغاله الأستاذ الدكتور عمر لمغيبشي، فرصة لرصد أهم المحاور و الأسئلة الإشكالية والخلاصات التي حاول الباحث سرتي الاشتغال عليها بالدرس و التحليل داخل فصول الكتاب موضوع اللقاء. و قد اخترنا داخل هذه الفسحة الإعلامية التوثيقية التفاعل مع أهم ما جاء في هذا اللقاء العلمي من قراءات و مناقشات كمساهمة منا في التعريف المتواصل بالدرس التاريخي، داخل حقلنا الإعلامي خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمواضيع ذات راهنية كبرى متعلقة بمشهدنا البحري المغربي و نعني به موضوع الجزر المتوسطية. اخترنا في البداية رصد أهم ما جاءت به مداخلة الدكتور الطاهر قدوري اعتمادا على ما قدمه مسير الجلسة الأستاذ لمغيبشي من نقاط مسجلة حول هذه الكلمة على اعتبار، أننا سنعبر في ما بعد عن تفاعلنا المباشر مع باقي المداخلات بشكل ينسجم و مساحات التوثيق و الرصد التي استطعنا رسمها بشكل حضوري خلال هذه المائدة المستديرة. في هذا المنحى نجد أن قدوري قد أكد بالدرجة الأولى على ضرورة تملك الباحث في التاريخ البحري لعدة منهجية تسمح له بالاستعانة بعدد من الأدوات البحثية من قبيل الجغرافيا الفلكية و نتائج الأبحاث الأثرية، بما يسمح على ما يبدو بمقاربة الموضوع البحثي بشكل أعمق و أكثر دقة. مع العلم أن قدوري كان واضحا في كلمته و هو يشير إلى أن القيمة الأساسية لمنجز الباحث خالد سرتي تكمن في تسليط هذا الأخير الضوء على ما يمكن أن نسميه بمجالات جغرافية بحرية تاريخية، خاصة أن المؤلف حسب قدوري قد أشار إلى حضور معطى السيطرة على الجزر البحرية كمطمح سعى من خلاله هذا الطرف أو ذاك ضمان السيادة مجاليا على الفضاء البحري الذي تنتمي إليه هذه الجزر، بناء على ما قام به صاحب الكتاب موضوع النقاش من استنطاق لعدد من الدراسات الرائدة في هذا الباب. و لم يفت قدوري التأكيد في كلمته أيضا أن الموضوع لازال يحتفظ براهنيته ذلك أن من سمات الصراع الدولي الحالي هو بحث الدول عن الإمساك بالسيادة البحرية. مع العلم أن نفس المتحدث قد دعى إلى ضرورة طرح السؤال حول حضور البحر في المتخيل التاريخي عند المسلمين، طالما أن انخراط مراكز الحكم الإسلامي نفسها في الممارسة البحرية كان متأخرا و كثيرا ما ارتبط بجدلية القوة و الضعف التي كانت تنطق بهما التجربة البحرية الإسلامية في تاريخيتها منذ العهد النبوي. وهو ما برز حسب إفادة نفس المتحدث في طبيعة التفاعل و التمثل الذي رسمته الحضارات المتعاقبة جنوب المتوسط مع المجال البحري بما فيها المغرب، حيث تم نسج مواقف و تمثلات معينة من البحر تجسدت في بروز فضاءات العيش السكانية بعيدة عن الساحل البحري، حتى أن بعض الحواضر البحرية المغربية القريبة نسبيا من المجال البحري المتوسطي قد وجد الآخر الأوروبي صعوبة حقيقية في احتلالها و اختراقها نظرا لتموقعها وسط تضاريس جبلية مانعة نوعا ما. و قد بدى هنا الجهاد البحري كرد فعل خاص اختار من خلاله المسلمون حسب قدوري دائما مقاربة تعاملهم التاريخي مع الجزر المتوسطية خصوصا جزر البليار و صقلية، و هي مساحات جزرية ستجد الإمبراطوريات المغربية في العصر الوسيط المرابطية و الموحدية نفسها في تفاعل تاريخي معها نظرا لانفتاح هذه الدول النسبي على الشأن البحري المتوسطي، خصوصا أن مسألة الاستعانة بالخبرات الملاحية الأجنبية ظلت معطى حاضر بقوة في الممارسة البحرية المغربية إبان هذه الفترة حسب نفس المتدخل. وقد شكلت مداخلة الأستاذ الدكتور عبد السلام الجعماطي بدورها هي الأخرى إضافة نوعية داخل هذا النسق العام الذي سارت فيه مداخلات المشاركين في هذا اللقاء العلمي، حيث أكد الجعماطي في كلمته على أن كتاب سرتي هو تعبير عن مجهود باحث راهن على امتداد زمني مهم الاشتغال على موضوع التاريخ البحري الذي لا يحظى إلا باهتمام محدود من طرف الباحثين سواء داخل المغرب و أوروبا. خصوصا أن تجربة كتابة التأريخ في العالم الإسلامي لم تلتفت أكثر إلا لتدوين أخبار الدول و الحواضر و ماله علاقة بتداول الحكم هنا أو هناك، وظل بذلك المجال البحري بعيدا نسيبا عن جذب اهتمام مدوني الأخبار نظرا لأن أنشطته ظلت بعيدة عن مركز الأحداث في البلاط حسب تعبير الجعماطي. و الشاهد عندنا حسب هذا الأخير طبيعة موقع أغلب الحواضر في العالم الإسلامي البعيدة من الناحية الجغرافية عن الساحل البحري كفاس و قرطبة و بغداد. و قد أكد نفس المتدخل في سياق كلمته أيضا أن البحث في التاريخ البحري يستلزم بالضرورة تملك الباحث لمنهج بحثي صارم، خاصة على مستوى تدبير إشكال ندرة الوثائق المصدرية المطروحة في بعض المساحات البحثية عند الاشتغال على تاريخ البحر إن صح التعبير. و قد اختار عبد السلام الجعماطي التفاعل مع المنجز البحثي للباحث سرتي من خلال قراءة خاصة انطلقت أولا من التركيز على القيمة المضافة التي جاء بها الكتاب، والتي اعتبر المتدخل أن مضمون خلفية الإصدار تؤكد ذلك، طالما أن سرتي قد عبر داخل هذا الحيز عن الجوهر الأساسي الذي حرك العمل ككل وهو الرغبة في تسليط الضوء أكثر على التفاعل التاريخي الذي رسمه أهل الضفة الجنوبية للمتوسط مع هذا الفضاء المتوسطي من خلال هذه الجزر البحرية بعيدا عن منطق الأحكام الجاهزة التي ما برحت تروج لمواقف سلبية دائمة لساكنة و دول جنوب المتوسط من هذا الفضاء البحري. ولم يفت المتدخل نفسه التذكير بأهمية توظيف صاحب الكتاب لأدوات التاريخ الجديد حيث برز ذلك في اختيار الباحث الاشتغال على الجزر البحرية المتوسطية من خلال الزمن الطويل، محاولا عبر هذا المنهج التفاعل مع تساؤلات رئيسية انصبت جلها حول فهم طبيعة الأدوار التي لعبتها هذه الجزر المتوسطية لصالح الدول الإسلامية جنوب حوض المتوسط خصوصا على المستوى السياسي و الاستراتيجي المجالي، حسب الجعماطي دائما. وقد حرص الباحث و الدكتور خالد سرتي بدوره التفاعل مع جاء في مداخلات الأساتذة المشاركين بهذه الندوة القرائية حول الكتاب موضوع الجلسة، من خلال إشارته أولا إلى أن موضوع علاقة المسلمين بالبحر يختزل في عمقه مشاريع بحثية متعددة فقط تنبغي الاستعانة بعلوم و تخصصات أخرى قصد إنجاز مقاربات دقيقة و أكثر شمولية للمواضيع ذات الصلة بالتاريخ البحري. و في إطار حديثه عن السياق الذي جاء فيه تأليف الكتاب أكد سرتي أن تداخل معطيات ذاتية بأخرى موضوعية كانت محفزة على الإنجاز. فعلاقة الباحث الخاصة بهذه الجزر كانت دافعة نحو العمل، خصوصا أنها تمثل حسب إفادة نفس الأستاذ حمولة تاريخية قوية تتجلى في احتفاظها إلى الآن بأصالتها الثقافية المتجسدة في عناصر رئيسية كاللغة و العمارة. أما عن الجانب الموضوعي الذي أطر إنجاز الباحث لهذا الـتأليف، فقد كان سرتي واضحا حينما أكد أن الأمر مرتبط في أصله بمشروعه البحثي الأكاديمي الذي انطلق بداية ثمانينات القرن الماضي عبر الاشتغال على موضوع علاقة المسلمين بالبحر خلال العصر الوسيط حيث تشكلت حينها الإرهاصات الأولى للانتباه في ما بعد إلى أهمية البحث في تاريخية الجزر المتوسطية كمفتاح لفهم تلك السياسات البحرية التي دشنتها تاريخيا القوى المتوسطية بما في ذلك فهم المواقف التي تبنتها دول جنوب المتوسط من العمل البحري. و لم يفت الباحث سرتي الإشارة إلى أن موضوع الجزر يحظى براهنية كبرى الآن و لا أدل على ذلك الاهتمام التاريخي الذي أولته إسبانيا و لا تزال، بما يمكن أن نسميه نحن بالمسألة الجزرية من خلال سعيها تأكيد سيطرتها على جزر ذات أهمية استراتيجية في المنظور الإسباني بما فيها تلك التابعة تاريخيا لبلادنا خاصة الجزر الجعفرية شمال المغرب، علما أن جزيرة ليلى هي الأخرى تبدو في هذا السياق كحارسة للساحل البحري المغربي حسب تعبير سرتي، رغم محدودية مساحتها الجغرافية ما يؤكد حسب تقديرنا نحن دواعي الأزمة التي افتعلتها إسبانيا مطلع القرن الحالي مع المغرب بسبب العمق الحيوي لهذه الجزيرة في التقدير الإسباني. ومن الملاحظ حسب إفادة سرتي دائما أن هذه الجزر المتوسطية قد لعبت دورها التاريخي و لاتزال في تحقيق التواصل بأشكاله المتعددة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط خاصة جزيرة قبرص، وهو ما أكدته الرحلات التي قام بها عدد من الإخباريين في التاريخ الإسلامي و التي سجلت لنا معطيات مهمة حول الخصوصيات الملاحية و البحرية داخل بعض هذه الفضاءات الجزرية. و قد أكد مؤلف الكتاب المذكور أن مقاربة هذا الموضوع بشكل عام يجب أن تنخرط في إطار مشروع مجتمعي ينبني أساسا على استنطاق الممكنات التنموية التي يمكن أن يرسمها الشأن البحري حاليا في بلادنا، سواء من الناحية التنموية أو من خلال آفاق تثمين هذا التراث الثقافي البحري، حيث اعتبر أن ميناء طنجة المتوسط بالمغرب يؤكد الطموحات الاقتصادية الكبرى التي يمكن أن يحققها اختيار بلد ما اختيار الاستثمار في المجال البحري . وقد كان اللقاء مناسبة حقيقية حاول من خلالها بعض من الحضور، التفاعل مع ما جاء من قراءات أكاديمية للسادة الأساتذة مؤطري هذا اللقاء الفكري. حيث حرصت المداخلات بشكل عام التأكيد في جانب منها على أهمية المفاهيم الكبرى التي جاءت في كتاب خالد سرتي خاصة على مستوى مفهوم “المجال البحري المتوسطي”، خصوصا أن عنوان المنجز نفسه يظل مفتوحا على كل القراءات الممكنة حسب مضمون المداخلة التي أكد صاحبها الباحث يوسف الزيات على أن القيمة الرئيسية التي يمكن استخلاصها من خلال كتاب سرتي هو التعامل الرسمي الواضح للدول الإسلامية بما فيها المغرب مع الشأن البحري خلال العصر الوسيط. و قد أشار بدوره الباحث سعيد نسيوي في تدخل له أن مدرسة التاريخ الجديد المتمثلة في الحوليات قد ساهمت بقوة في تعزيز انفتاح الباحثين الاشتغال على التاريخ البحري، مشيرا في نفس الآن إلى أن الجزر هي “منصات” حقيقية للتحكم في المجال البحري حسب تعبيره. في حين اختار الباحث خالد الصغروني في مداخلة له التأكيد على ضرورة الانتباه إلى التاريخ البحري كمجال بحثي خصب خصوصا على مستوى الممكنات البحثية الواعدة لمواضيع ذات صلة بالتراث الساحلي و البحري في مناطق مغربية لم تحظى إلى الآن باهتمام الباحثين حسب رأيه. و قد حرص بدورهم المتدخلون الرئيسيون في هذه الندوة على تقديم بعض الإضافات التعقيبية التي تتناغم مع أفرزته القراءات المدخلية التي قدمها هؤلاء حول كتاب الباحث السرتي، حيث أشار الطاهر قدوري في هذا الإطار إلى أن وجود تكوينات متخصصة كماستر متخصص سيسمح بمقاربة أكاديمية أكثر لمثل هذه المواضيع المتعلقة بالشأن البحري في تاريخيته، في حين أكد عبد السلام الجعماطي في إضافته له على أن طبيعة الموضوع البحثي هي من تفرض طبيعة المنهاج البحثي الممكن توظيفه، معتبرا أن هناك مجالات جغرافية ساحلية غنية بمادتها المصدرية البحثية خاصة على المستوى اللغوي حيث تشكل الألفاظ العامية في هذا السياق وثائق ذات حمولة تاريخية واضحة ممكن للباحثين الاشتغال عليها لرصد تاريخ بعض الممارسات البحرية في بلادنا، خصوصا إذا ما تم الانتباه إلى أهمية الأرشيف الذي خلفته مثلا إدارة الحماية الإسبانية في شمال المغرب من وثائق لها علاقة مباشرة بنماذج دقيقة للمراكب البحرية المحلية بالساحل الشمالي لبلادنا خلال فترة الاستعمار، معززا هذا الطرح بما خلفه مجموعة من الأسرى الأوروبيين الذين تم أسرهم في بلادنا قبل الاستعمار الفرنسي طبعا داخل سياقات تاريخية معينة من شاهدات حول معطيات تهم الملاحة المغربية حينها. وقد حرص مسير اللقاء بدوره الأستاذ عمر لمغيبشي التأكيد في كلمة له على أن البحث في التاريخ البحري ببلادنا يحمل حاليا طابع المشروع الوطني طالما أن هناك حسب تعبيره تراكما نوعيا الآن في هذا النوع من الكتابة التاريخية، مؤكدا في هذا السياق أن هناك رصيدا وثائقيا يمكن للباحث استثماره من قبيل الألفاظ اللسانية المتداولة ذات الصلة بالتراث البحري إلى جانب ما تمتلكه بعض المتاحف الدولية من أرشيف بحري مهم كما هو حال متحف إشبيلية الذي يضم مجموعة من القطع البحرية الأثرية كالسفن القديمة وبعض الأدوات الملاحية. وفي كلمة أخيرة له أشار الدكتور خالد سرتي إلى أن تشابه السحنات و الملامح بين ساكنة الجزر المتوسطية و بعض المجالات القارية المطلة على المتوسط، تظل شاهدة على حجم التواصل البشري و الثقافي الذي حصل تاريخيا داخل هذا الفضاء المتوسطي. وقد عرفت نهاية هذا اللقاء القرائي توقيع الكاتب خالد سرتي لمؤلفه لفائدة عدد من الباحثين و المهتمين.