أكينان: حيث تتنفس الأرض حياة، وتنبض الروح بالجمال
زين الدين بواح من طاطا
في تلك الزاوية البعيدة من الأرض، حيث تتعانق السماء مع الجبال، تنبض واحة أكينان في إقليم طاطا، وكأنها سر قديم تتوارثه الأجيال عبر الزمن. هنا، بين جبال الأطلس الصغير، تحتضن الأرض خيراتها، وتتناغم مع الرياح الطيبة التي تحمل عبير النخيل وتروي قصصًا غابت خلف ضباب السنين. أكينان ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل هي حلمٌ مغموس في الواقع، ورمزٌ للحياة البسيطة التي تنبض بجمالها الخاص. إذا قررت الانطلاق نحوها، فستسلك دربًا يمتد بين الجبال، لتجد نفسك في رحلة لا تُحكى بالكلمات، بل تُحس بالأرواح.
من مدينة طاطا، تبدأ مسافة مائة كيلومتر تفصل بينك وبين أكينان، لكن هذه المسافة ليست مجرد أرقام، هي رحلة في الزمن وفي المكان، تحملك من عالم إلى عالم آخر. وكلما اقتربت، شعرت وكأنك تقترب من قلب الأرض نفسها. الطريق إلى أكينان، عبر أقايغان، هو مسار مفتوح على الروح، حيث الجبال تشاركك تأملاتك وتفتح لك أبواب الذكريات، وتلوح أمامك القصبات المخزنية (إگيدار) التي تستمد قوّتها من التاريخ، وكأنها تُذكّرك بأنك تسير في أثر أجدادك الذين سكنوا هذه الأرض من قبل، وذابت خطواتهم بين الرمال والأحجار.
وتكمل الرحلة إذا كنت ممن يفضلون السير في طرق الجبال المخفية عبر تالوين وأكادير ملول، حيث تتناثر الطبيعة في تناغم عميق مع الصمت، ويبدو لك الطريق كأنما هو موصل إلى عالم آخر، مليء بالألوان الصامتة التي تتكلم بصوت منخفض. الطريق يتلو الحكايات بصمت، وكأن الجبال نفسها تهمس لك بحكمة قديمة عن الحياة.
ومع اقترابك من أكينان، يكاد قلبك ينبض مع الأرض، تشعر وكأنك وصلت إلى لحظة من الزمان متأرجحة بين الماضي والحاضر، بين روح الأرض وروح الإنسان. أكينان ليست مجرد واحة، بل هي قصيدة مرسومة في الرمال، مليئة بالخضرة والنخيل، حيث كل زاوية فيها تروي قصة من القصص التي لا تُقال، بل تُحس. وفي هذا المكان، تكتشف أن الزمن لا يركض، بل يتوقف ليحكي لك عن الأرض التي تحتضنك، عن جبال الأطلس التي تشاهدك بصمت، وكأنها تُعلّمك كيف تكون أنت.
هناك، حيث تلتقي الطبيعة البكر مع القلب البشري، يقع “أكينان كويست هاوس”، الذي تديره عائلة فارس، ذلك المأوى الذي هو أشبه بالحلم اليقظ. بين جدرانه الطينية، يشعر الزائر بأن الزمن قد تلاشى، وأن كل لحظة قضاها في هذا المكان هي جزء من سكون أزلي، من لحظات تجمّدت في الزمان. هذا المأوى ليس مجرد مكان للنوم، بل هو رحلة إلى الذات، حيث تجد السلام مع نفسك وتجد الحكاية التي كنت تبحث عنها منذ زمن بعيد.
وفي أكينان، ليس الجمال الطبيعي هو ما يجذبك فقط، بل أيضًا الحرف اليدوية التي تروي قصة الأرض وأبنائها. عند زيارة تعاونيات النساء، تحت إشراف السيدة تامنصورت، تجد أن كل قطعة تُصنع هناك هي انعكاس لحياة لا تعرف التعقيد، حياة تتناغم مع الأرض واليد البشرية. كل خيط ينسج في تلك الحرف، وكل نقش على قطعة قماش أو خشب، هو رسالة تروي عن النساء اللواتي صبّرن أنفسهن على تحديات الحياة واحتفظن بالجمال في كل تفاصيله.
لكن، إذا أردت أن تشهد روعة أكينان الحقيقية، فلتلتقِ بأهلها. فهم ليسوا مجرد سكان، بل هم الشعراء الذين يكتبون بحروفٍ من ضيافة وكرم. في أكينان، لا يُستقبل الزوار بابتسامات فحسب، بل بأذرع مفتوحة، كما لو أن كل واحد منهم هو قطعة من الأرض نفسها، يحمل في قلبه قصة تُقال بصوت منخفض عن الأجداد الذين رحلوا، وعن الجبال التي ستظل شامخة للأبد. أهل أكينان يزرعون البساطة في كل تعامل، ويقدمون لك الحياة في أبهى صورها، بعفوية عميقة، تجعل كل لحظة تقضيها معهم تكون لحظة حقيقية من الزمن، لا تساويها أوقاتٍ أخرى.
في أكينان، لا تكون مجرد زائر، بل تكون جزءًا من نسيج المكان، جزءًا من تاريخ طويل يُحييه الإنسان والحجر والشجر. هي تلك الواحة التي تعلمك أن الجمال يكمن في البساطة، وأن الكرم لا يحتاج إلى كلمات، بل إلى نوايا صافية وقلب مفتوح. أكينان ليست مجرد وجهة سياحية، بل هي رحلة روحية، ليها تكتشف أسرار الحياة القديمة، وتتذكر أن الأرض دائمًا تمنحك ما تحتاجه، إذا استطعت أن تستمع إليها بصمت.